فصل: غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فالتوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب، ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد‏:‏ التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب‏.‏ أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق، فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله، وإذا أفرد لفظ التوحيد، فهو يتضمن قول القلب وعمله، والتوكل من تمام التوحيد‏.‏

وهذا كلفظ الإيمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وقيل‏:‏ الإيمان قول وعمل، أي‏:‏ قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارج، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏.‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ‏.‏ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2ـ4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏

والإيمان المطلق يدخل فيه الإسلام كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس‏:‏ ‏(‏آمركم بالإيمان باللّه، أتدرون ما الإيمان باللّه‏؟‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، / وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم‏)‏؛ ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا‏.‏

وأما إذا قرن لفظ الإيمان بالعمل أو بالإسلام، فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 7‏]‏، وهو في القرآن كثير، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان ـ فقال‏:‏ ‏(‏الإسلام‏:‏ أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فما الإيمان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فما الإحسان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏‏.‏ ففرق في هذا النص بين الإسلام والإيمان لما قرن بين الاسمين، وفي ذلك النص أدخل الإسلام في الإيمان لما أفرده بالذكر‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏العمل‏]‏ فإن الإسلام المذكور هو من العمل، والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة، وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدًا رسول اللّه، وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته، لم يكن قد آمن قلبه‏.‏

و‏[‏الإيمان‏]‏ وإن تضمن التصديق، فليس هو مرادفًا له، فلا يقال / لكل مصدق بشيء‏:‏ أنه مؤمن به‏.‏ فلو قال‏:‏ أنا أصدق بأن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا، ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه، لم يقل لهذا‏:‏ أنه مؤمن بذلك، بل لا يستعمل إلا فيمن أخبر بشيء من الأمور الغائبة كقول إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏، فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالأول‏:‏ يقال للمخبر، والثاني‏:‏ يقال للمخبر به كما قال إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏، ففرق بين إيمانه باللّه وإيمانه للمؤمنين، لأن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه، وأما إيمانه باللّه فهو من باب الإقرار به‏.‏

ومنه قوله ـ تعالى ـ عن فرعون وملئه‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏، أي‏:‏ نقر لهما ونصدقهما‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏، ومن المعني الآخر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، أي‏:‏ أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير‏.‏

والمقصود هنا أن لفظ ‏[‏الإيمان‏]‏ إنما يستعمل في بعض الأخبار، وهو مأخوذ من الأمن، كما أن الإقرار مأخوذ من قر، فالمؤمن صاحب أمن، كما أن المقر صاحب إقرار، فلابد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه، فإذا كان عالمًا بأن محمدًا رسول اللّه، ولم يقترن بذلك حبه، وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه، فإن هذا ليس بمؤمن به، بل كافر به‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ كفر إبليس، وفرعون، وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلاء، فإن إبليس لم يكذب خبرًا ولا مخبرًا، بل استكبر عن أمر ربه‏.‏ وفرعون وقومه قال اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏، وقال له موسى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏‏.‏

فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب ـ علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له ـ لم ينفع صاحبه، بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللّه بعلمه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم / يقول‏:‏ ‏(‏اللّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع‏)‏‏.‏

ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو الإيمان، وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن، فإن ذلك يدل على عدم علم قلبه، وهذا من أعظم الجهل شرعًا وعقلًا، وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلق وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الأئمة كفرهم بذلك، فإنه من المعلوم أن الإنسان يكون عالمًا بالحق ويبغضه لغرض آخر، فليس كل من كان مستكبرًا عن الحق، يكون غيرعالم به، وحينئذ فالإيمان لابد فيه من تصديق القلب وعمله، وهذا معنى قول السلف‏:‏ الإيمان قول وعمل‏.‏

ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة، فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعًا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري، فإذا أقر القلب إقرارًا تامًا، بأن محمدًا رسول اللّه وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك ألا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزًا لخرس، ونحوه أو لخوف، ونحوه لم يكن قادرًا على النطق بهما‏.‏

/ وأبو طالب، وإن كان عالمًا بأن محمدًا رسول اللّه، وهو محب له، فلم تكن محبته له لمحبته للّه، بل كان يحبه؛ لأنه ابن أخيه فيحبه للقرابة، وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة، فأصل محبوبه هو الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالإقرار بهما زوال دينه الذي يحبه، فكان دينه أحب إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما ـ فلو كان يحبه ؛ لأنه رسول اللّه كما كان يحبه أبو بكر الذي قال اللّه فيه‏:‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏.‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏.‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏.‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏.‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 17 ـ 21‏]‏، وكما كان يحبه سائر المؤمنين به، كعمر وعثمان وعلى، وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعًا ـ فكان حبه حبًا مع اللّه لا حبًا للّه ؛ ولهذا لم يقبل اللّه ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لأنه لم يعمله للّه، واللّه لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، بخلاف الذي فعل، ما فعل ابتغاء وجه ربه الأعلى‏.‏

وهذا مما يحقق أن الإيمان، والتوحيد لابد فيهما من عمل القلب، كحب القلب، فلابد من إخلاص الدين للّه، والدين لا يكون دينًا إلا بعمل، فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة، وقد أنزل اللّه ـ عز وجل ـ سورتي الإخلاص‏:‏ ‏{‏قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ و‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏ إحداهما في توحيد القول والعلم، والثانية في توحيد العمل / والإرادة، فقال في الأول‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏.‏ اللَّهُ الصَّمَدُ ‏.‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏.‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في الثاني‏:‏ ‏{‏قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏.‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏.‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏.‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ ‏.‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏.‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏ ‏[‏ سورة الكافرون ‏]‏ فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير اللّه وإخلاص العبادة للّه‏.‏

والعبادة أصلها القصد والإرادة، والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها، كما ذكرناه في لفظ الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏، فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات، والتوكل من ذلك، وقد قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏

ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دلالة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران، كلفظ المعروف والمنكر فإنه قد قال‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 110‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، فالمنكر يدخل فيه ما كرهه اللّه، كما يدخل في المعروف ما يحبه اللّه‏.‏

وقد قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، فعطف المنكر على الفحشاء، ودخل في المنكر هنا البغي، وقال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏، فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي‏.‏

ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا قرن أحدهما بالآخر صار بينهما فرق، لكن هناك أحد الاسمين أعم من الآخر، وهنا بينهما عموم وخصوص، فمحبة اللّه وحده والتوكل عليه وحده، وخشية اللّه وحده، ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد اللّه تعالى، قال تعالى في المحبة‏:‏ ‏{‏وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏، فجعل الطاعة للّه والرسول وجعل الخشية والتقوى للّه وحده، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ‏.‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏ فجعل التحسب والرغبة إلى اللّه وحده‏.‏

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا أن قول القائل‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ‏}‏ فيه إفراد الإلهية للّه وحده وذلك يتضمن التصديق للّه قولًا وعملًا، فالمشركون كانوا يقرون بأن اللّه رب كل شيء، لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى، فلا يخصونه بالإلهية، وتخصيصه بالإلهية يوجب ألا يعبد إلا إياه، وألا يسأل غيره، كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ فإن الإنسان قد يقصد سؤال اللّه وحده والتوكل عليه، لكن في أمور لا يحبها اللّه، بل يكرهها وينهى عنها، فهذا وإن كان مخلصًا له في سؤاله، والتوكل عليه، لكن ليس هو مخلصًا في عبادته وطاعته، وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب الكشوفات، والتصرفات المخالفة لأمر اللّه ورسوله، فإنهم يعانون على هذه الأمور‏.‏

وكثير منهم يستعين اللّه عليها، لكن لما لم تكن موافقة لأمراللّه ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة، وكانت عاقبتهم عاقبة سيئة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وطَائفة أخرى قد يقصدون طاعة اللّه ورسوله، لكن لا يحققون التوكل عليه والاستعانة به، فهؤلاء يثابون على حسن نيتهم، وعلى طاعتهم، لكنهم مخذولون فيما يقصدونه، إذ لم يحققوا الاستعانة باللّه والتوكل عليه، ولهذا يبتلى الواحد من هؤلاء بالضعف والجزع تارة، وبالإعجاب أخرى، فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه، وربما حصل له جزع، فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب، وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25ـ27‏]‏‏.‏

وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله‏:‏ ‏{‏إيَّاكَ نَعْبٍُد‏}‏، والمعجب لا يحقق قوله‏:‏ ‏{‏وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، فمن حقق قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ خرج عن الرياء، ومن حقق قوله‏:‏ ‏{‏وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ خرج عن الإعجاب، وفي الحديث المعروف‏:‏ ‏(‏ثلاث مهلكات‏:‏ شُحٌّ مُطَاعٌ، وهوى مُتَّبَعٌ، وإعجاب المرء بنفسه‏)‏‏.‏

/وشر من هؤلاء وهؤلاء من لا تكون عبادته للّه، ولا استعانته باللّه، بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلاء المشركون من الوجهين‏.‏

ومن هؤلاء من يكون شركه بالشياطين، كأصحاب الأحوال الشيطانية، فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب والفجور، ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين، ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين، مما فيها إشراك باللّه، كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع أخر، وهؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الأولياء‏.‏ وإنما هو من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الأحوال الإيمانية القرآنية، والأحوال النفسانية، والأحوال الشيطانية‏.‏

وأما القسم الرابع‏:‏ فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم للّه، فلم يعبدوا إلا إياه، ولم يتوكلوا إلا عليه‏.‏

وقول المكروب‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ‏}‏ قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الآخر فمن أتم اللّه عليه النعمة استحضر التوحيد في النوعين، فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه، فقد يقول‏:‏ لا إله إلا اللّه مستشعرًا أنه لا يكشف الضر غيرك، ولا يأتي بالنعمة إلا أنت، فهذا مستحضر توحيد الربوبية، ومستحضر توحيد السؤال والطلب، والتوكل عليه، معرض عن توحيد الإلهية الذي يحبه اللّه ويرضاه ويأمر / به وهـو ألا يعبد إلا إياه، ولا يعبده إلا بطـاعته، وطـاعـة رسوله، فمن استشعر هـذا في قـوله‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ‏}‏ كان عابدًا للّه متوكلًا عليه وكان ممتثلًا قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏.‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏المزَّمل‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏

ثم إن كان مطلوبه محرمًا أثم، وإن قضيت حاجته، وإن كان طالبًا مباحًا لغير قصد الاستعانة به على طاعة اللّه وعبادته لم يكن آثمًا، ولا مثابًا، وإن كان طالبًا ما يعينه على طاعة اللّه وعبادته لقصد الاستعانة به على ذلك، كان مثابًا مأجورًا‏.‏

وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه، وبين النبي الملك، فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا، فإن العبد الرسول هو الذي لا يفعل إلا ما أمر به، ففعله كله عبادة للّه، فهو عبد محض منفذ أمر مرسله، كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال‏:‏ ‏(‏إني واللّه لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت‏)‏، وهو لم يرد بقوله‏:‏ ‏(‏لا أعطي أحدًا ولا أمنع‏)‏ إفراد اللّه بذلك قدرًا وكونًا، فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا، فلا يعطي أحدًا ولا يمنع إلا بقضاء اللّه وقدره، وإنما أراد إفراد اللّه بذلك شرعًا ودينًا، أي لا أعطي إلا من أمرت / بإعطائه، ولا أمنع إلا من أمرت بمنعه، فأنا مطيع للّه في إعطائي ومنعى، فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لأن اللّه أمره بهذه القسمة‏.‏

ولهذا كان المال حيث أضيف إلى اللّه ورسوله، فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة اللّه ورسوله، ليس المراد به أنه ملك للرسول، كما ظنه طائفة من الفقهاء، ولا المراد به كونه مملوكًا للّه خلقًا وقدرًا، فإن جميع الأموال بهذه المثابة، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى‏}‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏ 6، 7‏]‏، فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس‏.‏

فظن طائفة من الفقهاء أن الإضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه، كما يملك الناس أملاكهم‏.‏ ثم قال بعضهم‏:‏ إن غنائم بدر كانت ملكًا للرسول، وقال بعضهم‏:‏ إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكًا للرسول، وقال بعضهم‏:‏ إن الرسول إنما كان يستحق من الخمس خمسه، وقال بعض هؤلاء‏:‏ وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه، وهذه الأقوال توجد في كلام طوائف من أصحاب الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وهذا غلط من وجوه‏:‏

/منها‏:‏ أن الرسول لم يكن يملك هذه الأموال كما يملك الناس أموالهم، ولا كما يتصرف الملوك في ملكهم، فإن هؤلاء وهؤلاء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات، فإما إن يكون مالكًا له، فيصرفه في أغراضه الخاصة، وإما أن يكون ملكًا له، فيصرفه في مصلحة ملكه، وهذه حال النبي الملك، كداود وسليمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 39‏]‏، أي‏:‏ أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، ونبينا كان عبدًا رسولًا لا يعطي إلا من أمر بإعطائه، ولا يمنع إلا من أمر بمنعه، فلم يكن يصرف الأموال إلا في عبادة اللّه وطاعة له‏.‏

ومنها‏:‏ أن النبي لا يورث ولو كان ملكًا، فإن الأنبياء لايورثون، فإذا كان ملوك الأنبياء لم يكونوا ملاكا، كما يملك الناس أموالهم، فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكًا‏.‏

ومنها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة، ويصرف سائر المال في طاعة اللّه لا يستفضله، وليست هذه حال الملاك، بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال اللّه ورسوله، بمعنى أن اللّه أمر رسوله أن يصرف ذلك المال في طاعته، فتجب طاعته في قسمه، كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع اللّه، وهو في ذلك مبلغ عن اللّه، / والأموال التي كان يقسمها النبي صلى الله عليه وسلم على وجهين‏:‏

منها‏:‏ ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث‏.‏

ومنها‏:‏ ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه، فإن ما أمر اللّه به، منه ما هو محدود بالشرع، كالصلوات الخمس، وطواف الأسبوع بالبيت، ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور، فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها اللّه‏.‏

فمن هذا ما اتفق عليه الناس، ومنه ما تنازعوا فيه، كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات‏:‏ هل هي مقدرة بالشرع‏؟‏ أم يرجع فيها إلى العرف، فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس‏؟‏ وجمهور الفقهاء على القول الثاني، وهو الصواب لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند‏:‏ ‏(‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏، وقال أيضًا في خطبته المعروفة‏:‏ ‏(‏للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف‏)‏‏.‏

وكذلك تنازعوا ـ أيضًا ـ فيما يجب من الكفارات‏:‏ هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف‏؟‏

فما أضيف إلى اللّه والرسل من الأموال، كان المرجع في قسمته إلى أمر / النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين‏:‏ ‏(‏ليس لي مما أفاء اللّه عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم‏)‏ أي‏:‏ ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏وهو مردود عليكم‏)‏ بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة‏.‏

ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين، والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين، الذين خلفوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أمته، فيقسمونها بأمرهم، فأما أربعة الأخماس، فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم اللّه ورسوله كما يستفتى المستفتى، وكما كانوا في الحدود لمعرفة الأمر الشرعي، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم، فقيل‏:‏ إن ذلك كان من الخمس، وقيل‏:‏ إنه كان من أصل الغنيمة، وعلى هذا القول فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من الأنصار بما أزال عتبه، وأراد تعويضهم عن ذلك‏.‏

ومن الناس من يقول‏:‏ الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون، وإن للإمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في غير هذا الموضع‏.‏

فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض للّه الذي يعبده ويستعينه، فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ / توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد، لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران، كما في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ‏.‏ مَلِكِ النَّاسِ ‏.‏ إِلَهِ النَّاسِِ‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 1-3‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏، فجمع بين الاسمين‏:‏ اسم الإله واسم الرب‏.‏ فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده فيدبره‏.‏

ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه اللّه، والسؤال متعلقًا باسمه الرب، فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق‏.‏ والإلهية هي الغاية، والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم، والمصلي إذا قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية، فالعبادة غاية مقصودة، والاستعانة وسيلة إليها‏:‏ تلك حكمة وهذا سبب، والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال‏:‏ أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك‏.‏ فالعلة الغائية متقدمة في التصور والإرادة وهي متأخرة في الوجود‏.‏ فالمؤمن يقصد عبادة اللّه ابتداء وهو يعلم أن ذلك لا يحصل إلا بإعانته فيقول‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏.‏

ولما كانت العبادة متعلقة باسمه اللّه ـ تعالى ـ جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم مثل كلمات الأذان‏:‏ اللّه أكبر، اللّه أكبر‏.‏ ومثل الشهادتين‏:‏ / أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمدًا رسول اللّه‏.‏ ومثل التشهد‏:‏ التحيات للّه، ومثل التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير‏:‏ سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر‏.‏

وأما السؤال فكثيرًا ما يجيء باسم الرب، كقول آدم وحواء‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، وقول نوح‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 47‏]‏، وقول موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏، وقول الخليل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ‏}‏ الآية ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏، وقوله مع إسماعيل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏، وكذلك قول الذين قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏ ومثل هذا كثير‏.‏

وقد نقل عن مالك أنه قال‏:‏ أكره للرجل أن يقول في دعائه‏:‏ يا سيدي، يا سيدي، يا حنان، يا حنان، ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء، ربنا، ربنا‏.‏ نقله عنه العتبي في العتبية‏.‏ وقال تعالى عن أولى الألباب‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏ الآيات‏.‏

/فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال، ناسب أن يسأله باسمه الرب، وإن سأله باسمه اللّه؛ لتضمنه اسم الرب، كان حسنًا، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة، فاسم اللّه أولى بذلك، إذا بدأ بالثناء ذكر اسم اللّه، وإذا قصد الدعاء دعا باسم الرب؛ ولهذا قال يونس‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، وقال آدم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، فإن يونس ـ عليه السلام ـ ذهب مغاضبًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏‏[‏الصافات‏:‏ 142‏]‏، ففعل ما يلام عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه، والاعتراف بأنه لا إله إلا هو، فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره فلا يطاع الهوى، فإن اتباع الهوى يضعف عبادة اللّه وحده، وقد روى أن يونس ـ عليه السلام ـ ندم على ارتفاع العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب‏.‏وفعل ما اقتضى الكلام الذي ذكره اللّه تعالى وأن يقال‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ‏}‏ وهذا الكلام يتضمن براءة ما سوى اللّه من الإلهية، سواء صدر ذلك عن هوى النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

والعبد يقول مثل هذا الكلام فيما يظنه وهو غير مطابق، وفيما يريده وهو غير حسن‏.‏

/وأما آدم ـ عليه السلام ـ فإنه اعترف أولًا بذنبه، فقال‏:‏ ‏{‏ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ ولم يكن عند آدم من ينازعه الإرادة لما أمر اللّه به، مما يزاحم الإلهيـة بـل ظـن صدق الشيطـان الـذي ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ ‏.‏ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 21، 22‏]‏، فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره، وما أظهر من نصحه حالهما مناسبًا لقولهما‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ لما حصل من التفريط، لا لأجل هوى وحظ يزاحم الإلهية، وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية تكمل علمهما وقصدهما، حتى لا يغترا بمثل ذلك، فهما يشهدان حاجتهما إلى اللّه ربهما الذي لا يقضي حاجتهما غيره‏.‏

وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق الإلهية بما حصل من المغاضبة، وكراهة إنجاء أولئك، ففي ذلك من المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته للّه، وتألهه له وأن يقول‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ‏}‏ فإن قول العبد‏:‏ لا إله إلا أنت، يمحو أن يتخذ إلهه هواه‏.‏ وقد روى‏:‏ ‏(‏ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند اللّه من هوى متبع‏)‏‏.‏ فكمل يونس ـ صلوات اللّه عليه ـ تحقيق إلهيته للّه، ومحو الهوى الذي يتخذ إلهًا من دونه، فلم يبق له ـ صلوات اللّه عليه وسلامه ـ عند تحقيق قوله لا إله إلا أنت إرادة تزاحم إلهية الحق، بل كان مخلصًا للّه الدين؛ إذ كان من أفضل عباد اللّه المخلصين‏.‏

وأيضًا، فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له، فيبقى فيه / نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره، ووساوس في حكمته ورحمته، فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين‏:‏ الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة، والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعًا لما أمر اللّه به، فلا يكون له مع أمر اللّه وحكمه هوى يخالف ذلك، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به‏)‏ رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له‏:‏ يا رسول اللّه، واللّه لأنت أحب إلىّ من نفسي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الآن يا عمر‏)‏، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله، ويسلم له، ويكون هواه تبعًا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدمًا على حب الإنسان نفسه، وماله، وأهله، فكيف في تحكيمه اللّه تعالى والتسليم له‏؟‏‏!‏ / فمن رأى قومًا يستحقون العذاب في ظنه، وقد غفر اللّه لهم ورحمهم، وكره هو ذلك، فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم اللّه، وإما عن ظن يخالف علم اللّه، واللّه علىم حكيم‏.‏ وإذا علمت أنه علىم، وأنه حكيم، لم يبق لكراهية ما فعله وجه، وهذا يكون فيما أمر به، وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه، ونغضب عليه‏.‏

فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر، والفسوق، والعصيان، فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلاف توبته على عباده وإنجائه إياهم من العذاب، فإن هذا من مفعولاته التي لم يأمرنا أن نكرهها، بل هي مما يحبها، فإنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين‏.‏ فكراهة هذا من نوع اتباع الإرادة المزاحمة للإلهية، فعلى صاحبها أن يحقق توحيد الإلهية فيقول‏:‏ لا إله إلا أنت‏.‏

فعلىنا أن نحب ما يحب، ونرضي ما يرضى، ونأمر بما يأمر، وننهي عما ينهي، فإذا كان ‏{‏يُحِبُّ التَّوَّابِينََ‏}‏ و‏{‏وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ فعلىنا أن نحبهم، ولا نأله مراداتنا المخالفة لمحابه‏.‏

والكلام في هذا المقام مبني على أصل، وهو‏:‏ أن الأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم ـ معصومون فيما يخبرون به عن اللّه ـ سبحانه ـ وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة؛ ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما / قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏.‏ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136، 137‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏.‏

بخلاف غير الأنبياء، فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء، ولو كانوا أولياء للّه، ولهذا من سب نبيًا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء، ومن سب غيرهم لم يقتل‏.‏

وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة، فإن النبي هو المنبئ عن اللّه، و الرسول هو الذي أرسله اللّه تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، والعصمة فيما يبلغونه عن اللّه ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين‏.‏

/ولكن هل يصدر ما يستدركه اللّه، فينسخ ما يلقي الشيطان، ويحكم اللّه آياته‏؟‏ هذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك، والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله‏:‏ ‏(‏تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى‏)‏ وقالوا‏:‏ إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت قال‏:‏ هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضًا، وقالوا في قوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ هو حديث النفس‏.‏

وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا هذا منقول نقلًا ثابتًا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏.‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏.‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏ الحج‏:‏ 52 ـ 54 ‏]‏، فقالوا‏:‏ الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث، والقرآن يوافق ذلك، فإن نسخ اللّه لما يلقى الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل، حتى لا تختلط آياته /بغيرها‏.‏ وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرًا يسمعه الناس، لا باطنًا في النفس‏.‏ والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ‏.‏

وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند اللّه، وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند اللّه، وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه اللّه، ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق، وقوله الحق، وهذا كما قالت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ لو كان محمد كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله، ولو كان خطأ، فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن اللّه أحكم آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبرائته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه كفرًا محضًا بلا ريب‏.‏

وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع‏؟‏ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من / بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها‏؟‏ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط‏؟‏ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا‏؟‏ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

والقول الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف‏:‏ إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقًا، والرد على من يقول‏:‏ إنه يجوز إقرارهم عليها، وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول‏.‏

وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع، وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبًا، ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه، ورجعوا عنه، كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمـر والنـهي فلا يجوز جعله مأمورًا به ولا منهيًا عنه، فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه‏.‏

وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها اللّه، يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه، كما قال / بعض السلف‏:‏ كان داود ـ عليه السلام ـ بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة‏.‏ وقال آخر‏:‏ لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة‏:‏ ‏(‏للّه أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلًا‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏إلخ‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏، وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض اللّه صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها، وهو مشفق من كبارها أن تظهر، فيقول اللّه له‏:‏ ‏(‏إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فيقول‏:‏ أي رب، إن لي سيئات لم أرها‏)‏ إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقًا منها أن تظهر، ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل، أعظم من حاله لو لم تقع السيئات، ولا التبديل‏.‏

وقال طائفة من السلف، منهم سعيد بن جبير‏:‏ إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار، ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏.‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72، 73‏]‏، فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب اللّه عليهم‏.‏

وفي الكتاب والسنة الصحيحة، والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه‏.‏

والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية، والقدرية، والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة، وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم‏.‏

ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع، وهي العصمة في التبليغ، لم ينتفعوا بها، إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه، أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، والعصمة التي كانوا ادعوها، لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم، فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به، فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من اللّه، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم، وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة، قال تعالى‏:‏

{‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏‏.‏

/واللّه ـ تعالى ـ لم يذكر في القرآن شيئًا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونًا بالتوبة والاستغفار، كقول آدم وزوجته‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، وقول نوح‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏[‏هود‏:‏ 47‏]‏، وقول الخليل ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 82‏]‏، وقول موسى‏:‏ ‏{‏أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏.‏ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155، 156‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، وقوله تعالى عن داود‏:‏ ‏{‏فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ‏.‏ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24، 25‏]‏، وقوله تعالى عن سليمان‏:‏ ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وأما يوسف الصديق، فلم يذكر اللّه عنه ذنبًا؛ فلهذا لم يذكر اللّه عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، / فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد‏:‏ الهم همان‏:‏ هم خطرات، وهم إصرار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتبت عليه، وإذا تركها للّه كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة‏)‏ وإن تركها من غير أن يتركها للّه لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه للّه، ولذلك صرف اللّه عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب للّه‏.‏

فيوسف ـ عليه السلام ـ لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏‏.‏

وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًا على يده، وأمثال ذلك، فكله مما لم يخبر اللّه به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا على الأنبياء وقدحًا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفًا واحدًا‏.‏

/وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 53‏]‏ فمن كلام امرأة العزيز، كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن، حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏.‏ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ‏.‏ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏.‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50 ـ 53‏]‏‏.‏

فهذا كله كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن، لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه، ولكن لما ظهرت براءته في غيبته ـ كما قالت امرأة العزيز‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ أي‏:‏ لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته ـ فحينئذ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏، وقد قال كثير من المفسرين‏:‏ إن هذا من كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه، وقد / بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع‏.‏

و المقصود هنا أن ما تضمنته ‏[‏قصة ذي النون‏]‏ مما يلام عليه كله مغفور بدله اللّه به حسنات، ورفع درجاته، وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ‏.‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ‏.‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48ـ50‏]‏، وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال‏:‏ ‏{‏فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 241‏]‏، فأخبر أنه في تلك الحال مليم، و ‏[‏المليم‏]‏ الذي فعل ما يلام عليه، فالملام في تلك الحال لا في حال نبذه بالعراء وهو سقيم، فكانت حاله بعد قوله‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان، والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية، والأعمال بخواتيمها‏.‏

واللّه ـ تعالى ـ خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال، فلا يجوز أن يعتبر قدر الإنسان بما وقع منه قبل حال الكمال، بل الاعتبار بحال كماله، ويونس صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال‏.‏

/ ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصالحين بعد دخول الجنان، ورضا الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار ‏{‏وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ‏.‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23، 24‏]‏ فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من المخلوقين وإلا فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب‏.‏

ولو اعتبر ذلك لاعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم حين نفخت فيه الروح، ثم هو وليد، ثم رضيع ثم فطيم، إلى أحوال أخر، فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل ، وتفضيله بها على كل صنف وجيل، وإنما فضله باعتبار المآل، عند حصول الكمال‏.‏

وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على الإسلام فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرًا فأسلم ليس بصواب، بل الاعتبار بالعاقبة، وأيهما كان أتقى للّه في عاقبته كان أفضل‏.‏ فإنه من المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا باللّه ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على الإسلام من أولادهم وغير أولادهم، بل من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه / فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما، بل من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما ألا ينكره كما أنكره الذي عرفه‏.‏

ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية‏.‏ وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل اللّه، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره‏.‏

ولهذا كان الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك؛ ولهذا يقال‏:‏

والضد يظهر حسنه الضد**

/ويقال‏:‏

وبضدها تتبين الأشياء**

وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول‏:‏ لست بخب ولا يخدعني الخب، فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به‏.‏

وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقًا، فإن هذا ليس بمطرد، بل قد يكون الطبيب أعلم بالأمراض من المرضى، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أطباء الأديان فهم أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها، وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس‏.‏

ولكن المراد‏:‏ أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به، والنفور عنه، والمحبة للخير إذا ذاقه ما لا يحصل لبعض الناس، مثل من كان مشركًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والأقوال الفاسدة والظلمة والشر، ثم شرح اللّه صدره للإسلام، وعرفه محاسن الإسلام، فإنه قد يكون أرغب فيه، وأكره للكفر من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والإسلام، بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا، أو مقلد في مدح هذا وذم هذا‏.‏

/ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده، أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده، أو ذاق الخوف ثم ذاق الأمن بعده، فإن محبة هذا ورغبته في العافية والأمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته‏.‏

وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور، ثم بين اللّه له الحق وتاب عليه توبة نصوحًا، ورزقه الجهاد في سبيل اللّه، فقد يكون بيانه لحالهم، وهجره لمساويهم، وجهاده لهم أعظم من غيره، قال نعيم بن حماد الخزاعي ـ وكان شديدًا على الجهمية ـ‏:‏ أنا شديد عليهم، لأني كنت منهم‏.‏ وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏ نزلت هذه الآية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب اللّه عليهم، فهاجروا إلى اللّه ورسوله، وجاهدوا وصبروا‏.‏

وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ـ رضي اللّه عنهما ـ من أشد الناس على الإسلام فلما أسلما تقدما على من سبقهما إلى الإسلام، وكان بعض من سبقهما دونهما في الإيمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد للكفار والنصر للّه ورسوله، وكان عمر لكونه أكمل إيمانًا وإخلاصًا وصدقًا ومعرفة وفراسة ونورًا أبعد عن هوى النفس وأعلى همة / في إقامة دين اللّه، مقدما على سائر المسلمين، غير أبي بكر رضي اللّه عنهم أجمعين‏.‏

وهذا وغيره مما يبين أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية‏.‏

وما يذكر في الإسرائيليات‏:‏ ‏(‏أن اللّه قال لداود‏:‏ أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود‏"‏ فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعًا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا، فإن دين محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏ أنا نبي الرحمة، وأنا نبي التوبة‏)‏ ،وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا‏.‏

وقد قال تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس‏.‏ فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته، كيف يقال‏:‏ إنه لا يعود لمودته ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏.‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏.‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ‏}‏‏[‏البروج‏:‏ 14 - 16‏]‏ ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة، فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، وإن كان أنقص / كان الأمر أنقص، فإن الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ يقول اللّه تعالى‏:‏ من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه‏)‏‏.‏ ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبة ومودة، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏[‏الممتحنة‏:‏ 7‏]‏، نزلت في المشركين الذين عادوا اللّه ورسوله مثل ‏[‏أهل الأحزاب‏]‏ كأبي سفيان بن حرب، وأبي سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل ابن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم‏.‏ فإنهم بعد معاداتهم للّه ورسوله / جعل اللّه بينهم وبين الرسول والمؤمنين مودة، وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه‏.‏ وقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت‏:‏ واللّه يا رسول اللّه، ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك، وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها نحو ذلك‏.‏

ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم للّه ـ تعالى ـ فإن أوثق عُرَى الإيمان الحب في اللّه، والبغض في اللّه‏.‏ فالحب للّه من كمال التوحيد، والحب مع اللّه شرك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة للّه ومحبة للّه ومن أحب اللّه أحبه اللّه، ومن ودَّ اللّه ودَّه اللّه، فعلم أن اللّه أحبهم وودهم بعد التوبة، كما أحبوه وودوه، فكيف يقال‏:‏ إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة‏؟‏‏!‏

وإن قال قائل‏:‏ أولئك كانوا كفارًا، لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم، بل كانوا جهالًا، بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه‏.‏

/قيل‏:‏ الجواب من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ليس الأمر كذلك، بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدًا رسول اللّه، ويعادونه حسدًا وكبرًا، وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع غيره، كما سمع من أمية بن أبي الصلت، وما سمعه من هرقل ملك الروم، وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنًا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل اللّه عليه الإسلام، وهو كاره له، وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلامه ومحبته للّه ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ‏.‏ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ‏.‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏[‏ الفرقان‏:‏ 68ـ70‏]‏ فإذا كان اللّه يبدل سيئاتهم حسنات، فالحسنات توجب مودة اللّه لهم، وتبديل السيئات حسنات ليس مختصًا بمن كان كافرًا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏ قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا لي‏:‏ كل من عصي اللّه فهو / جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة اللّه تعالى للتائبين فرق لا أصل له، بل الكتاب والسنة يدل على أن اللّه يحب التوابين، ويفرح بتوبة التائبين، سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك‏.‏

ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلابد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود، فإذا كان يبغض الحق فلابد أن يحبه، وإذا كان يحب الباطل فلابد أن يبغضه، فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به، ومن بغض الباطل واجتنابه هو من الأمور التي يحبها اللّه تعالى ويرضاها، ومحبة اللّه كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه، فكل من كان أعظم فعلًا لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له، وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل، وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق، فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه، بل يبدل اللّه سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل اللّه سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل‏.‏ وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده اللّه منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت / مودة اللّه له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال‏:‏ الود لا يعود‏.‏

وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول‏:‏ إن اللّه لا يبعث نبيًا إلا من كان معصومًا قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال‏:‏ إنه لا يبعث نبيًا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصًا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم‏.‏ فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصًا فهو غالط غلطًا عظيمًا، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلًا، لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله‏.‏

والأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم وسلامه ـ كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها،لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك،ومن أخر ذلك زمنًا قليلًا كفر اللّه ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم ،هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا‏.‏

/ والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر اللّه عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم اللّه تعالى، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فآمن لوط لإبراهيم ـ عليه السلام ـ ثم أرسله اللّه تعالى إلى قوم لوط‏.‏ وقد قال تعالى في قصة شعيب‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏.‏ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 88، 89‏]‏، وقال تعالى‏:‏ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏.‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏‏[‏إبراهيم‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏

وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولابد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏‏.‏

/وقد أخبر اللّه ـ سبحانه ـ بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وآخر ما نزل عليه ـ أو من آخر ما نزل عليه ـ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏.‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏.‏ ففَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏سورة النصر‏]‏، وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك اللّهم اغفر لي‏"‏ يتأول القرآن‏)‏‏.‏

وقد أنزل اللّه عليه قبل ذلك‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117‏]‏، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة‏)‏، وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مـرة‏)‏، وفي السنن عن ابن عـمر أنه قال‏:‏ كـنا نعد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور‏)‏ مائة مرة‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان / يقول‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني‏.‏ أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير‏)‏، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أقول‏:‏ اللّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللّهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع، وفي صحيح مسلم عن على ـ رضى اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح‏:‏ ‏(‏اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت‏)‏، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده‏:‏ ‏(‏اللّهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره‏)‏‏.‏

/وفي السنن عن على، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد اللّه وقال‏:‏ ‏(‏‏{‏سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏.‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ‏}‏‏)‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13، 14‏]‏ ثم كبره وحمده ثم قال‏:‏ ‏(‏سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏، ثم ضحك ‏!‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الرب يعجب من عبده إذا قال‏:‏ اغفـر لي، فإنه لا يغفـر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا‏)‏‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏.‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏[‏الفتح‏:‏ 1، 2‏]‏، وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏أن المسيح يقول‏:‏ اذهبوا إلى محمد عبد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏)‏، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له‏:‏ أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورا‏)‏‏.‏

ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة‏.‏

لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب‏.‏ وتأويلاتهم تبين لمن / تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه‏.‏ كتأويلهم قوله‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن آدم قد تاب اللّه عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلًا عن عام الحديبية الذي أنزل اللّه فيه هذه السورة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ِوَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏.‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121، 122‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏، وقد ذكر أنه قال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضًا، ومن قال‏:‏ إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن اللّه لا يجعل الذنب ذنبًا لمن لم يفعله فإنه هو القائل‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذنب آدم صلى الله عليه وسلم أو أمته أو غيرهما‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 84‏]‏، ولو جاز هذا لجاز / أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم، ويقال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ المراد‏:‏ ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك، فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم، وهو سيد ولد آدم، وقال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة‏.‏ أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا‏)‏ وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد، بل تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبًا له‏.‏ فإن قال‏:‏ إن اللّه لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل‏:‏ وهو أيضًا لم يغفر ذنوب جميع أمته‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏ فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبًا له‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أنه ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول اللّه هذا لك فما لنا‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ مختص به دون أمته‏.‏

الوجه السادس‏:‏ أن اللّه لم يغفر ذنوب جميع أمته، بل قد ثبت / أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا اللّه، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل‏.‏ فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول، لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب‏.‏